شارك المقال
العراق
العراق موطن للتنوّع العرقي والديني، لكن واحدة من أقدم مجموعات الأقليات تتعرض الآن للتهديد. وتظهر مخاوف من أن الصابئة المندائيين، الذين عاشوا في بلاد ما بين النهرين لأكثر من ألفي عام، سوف يختفون تمامًا.
التلاشي
تعود أصول الصابئة المندائيين إلى المناطق القريبة من أنهار بلاد ما بين النهرين، وتحديدًا مدينة أور القديمة. ومع ذلك، يعيش معظم معتنقي هذه الديانة القديمة اليوم في بغداد و محافظتي البصرة وميسان في العراق. وتعيش مجموعة أخرى أيضًا خارج الحدود، في مدينة الأهواز الإيرانية.
وبعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة على العراق عام 2003، انخفض عدد الصابئة المندائيين في العراق بشكل كبير، من 75 ألف إلى خمسة آلاف. وتأثرت هذه الأقلية بشكل غير متناسب، مثل غيرها، بالعنف الطائفي وانهيار الوضع الأمني في العراق في أعقاب الغزو. وبما أن هذه الديانة تمنع أتباعها من اللجوء إلى العنف وامتلاك السلاح، فهم أهداف سهلة.
قالت نور زهيري، 24 سنة، وهي عراقية من ديانة الصابئة المندائيين،”ما زلنا هنا رغم كل أعمال القتل والاختطاف مقابل الفدية والتهجير التي تعرضنا لها،”إنهم يعتبروننا كفار“.
العنف والاضطهاد
صرح ستار جبار حلو، أحد كبار رجال الدين والزعماء العالميين،”كتبنا مكتوبة باللغة الآرامية، وترجمت قبل 25 عامًا فقط. لم يكن أحد يعرف أي شيء عن معتقداتنا. وأدى ذلك إلى انتشار الكثير من المفاهيم الخاطئة عنا“. ويعتقد حلو أن مثل هذه المعلومات المضللة أدت إلى “زيادة التمييز والعنف والاضطهاد الذي يتعرض له المؤمنون في العراق اليوم”.
وفي يناير/كانون الثاني، دعا رئيس كتلة الصابئة المندائيين في البرلمان العراقي نوفل الناشي رجل الدين والسياسي الشيعي مقتدى الصدر إلى “إعادة ممتلكات وأراضي وثروات الأقلية إلى أصحابها الشرعيين”. وردًا على ذلك، أمر الصدر مكتبه الشخصي بمتابعة قضايا “ممتلكات الصابئة المندائيين المغصوبة”. وبعد شهرين، نصح الناشي أعضاء دائرته الانتخابية بـ “الانتقال إلى إقليم كردستان العراق بدلًا من مغادرة العراق تمامًا”.
قال النائب المسيحي السابق جوزيف صليوا إن “وجود نائب واحد من ديانة الصابئة المندائية في البرلمان غير كاف، لأنه يعرضهم لنفوذ الأحزاب ذات الوزن الثقيل”. وأكد أن “المشكلة نفسها موجودة في مجالس المحافظات، مما يجعل التمثيل السياسي للأقليات في العراق رمزيًا إلى حد ما“.
ونتيجة لهذه الديناميكيات، غالبًا ما يتم تجاهل مطالب هذه الأقلية بامتلاك الأراضي لإنشاء مقابر أو دور عبادة للصابئة المندائيين.
وعلى الرغم من أن التمييز ضد الديانة واضح في النظام السياسي، قال ياهان عبد، 18 سنة، إن التعصب الذي واجهه لِكونه من أبناء ديانة الصابئة المندائية في محافظة البصرة ذات الغالبية الشيعية ينبع بشكل أساسي من “الاعتقاد بأننا نمارس السحر والشعوذة“. وإشارة زهيري إلى أن معلميها في المدرسة كانوا يطلبون منها الإفصاح عن ديانتها أمام الفصل ومناقشة أي إله تعبد.
من هم الصابئة المندائيون؟
الصابئة المندائية هي واحدة من أقدم الديانات الغنوصية في العالم. ويؤكد رجال الدين أنها سبقت الإسلام والمسيحية. وإنها ديانة توحيدية وإبراهيمية غير تبشيرية، ولا تسمح لأتباعها بترك الدين وكذلك لا تسمح لانضمام أحد لها.
ويشهد اسمها على تأسيسها. فكلمات الصابئة والمندائية تعني “المعمداني المطلع” باللغة الآرامية القديمة. وتقدس هذه الديانة آدم باعتباره أول نبي، ويحيى المعروف باللغة الإنجليزية باسم يوحنا المعمدان، باعتباره الأخير. ويُعتبر كتاب كنزا ربا المقدس Ginza Rba [الكنز العظيم] مصدر الإيمان الرئيسي للوصايا والتعاليم.
وعلى غرار الإسلام، تحتوي الصابئة المندائية على خمسة أركان، ومنها وحدانية الله، والصلاة خمس مرات في اليوم، والزكاة، والصوم. لكن الأتباع يعتبرون المعمودية، وهي الركن الخامس، قوة تطهير تربطهم بالله. ويتم تعميد المؤمنين مئات المرات على مدار حياتهم.
يوم الخلق، “برونايا“
في شهر مارس/آذار من كل عام، يحتفل الصابئة المندائيون بيوم الخلق، المعروف باسم “الخليقة” باللغة العربية أو “برونايا” باللغة الآرامية. وهذه واحدة من أربع مناسبات سنوية رئيسة، وعادة ما يتم الاحتفال بها بمهرجان مدته خمسة أيام يتضمن المعمودية. وقالت زهيري البالغة من العمر 24 عامًا، أنهم يشيرون إلى الأيام الخمسة المشتركة باسم Panja [بانجا]، أي خمسة باللغة الفارسية.
واضافت زهيري إن العادات تقضي بارتداء الراستا، وهو لباس أبيض يعكس الوضوح والضوء، بينما يحمل الرجال “ماركانا”، أي غصن زيتون، خلال مراسم التعميد. لكنها أعربت عن أسفها لأن طقوسهم شهدت مشاركة محدودة للغاية في العامين الماضيين بسبب قيود جائحة كوفيد-19.
وساهمت السياسات البيئية المدمرة للرئيس العراقي السابق صدام حسين (1979-2003)، مثل تجفيف أهوار بلاد ما بين النهرين في جنوب العراق والتلوث المتفشي، في تراجع طقوس الصابئة المندائيين، التي تتمحور حول المياه.
“الانقراض الوشيك“
إن عدم السماح للأشخاص بالانضمام للديانة، إضافة إلى عواقب 18 عامًا من الاضطرابات التي أعقبت الحرب، أدى إلى انخفاض كبير في عدد سكان الأقليات.
ونظرًا لأن السلطة السياسية في بغداد مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالتركيبة السكانية، فقد تقلص دور الصابئة المندائيين في السياسة بشكل كبير.
وحاليًا، يركز الصابئة المندائيون المشتتون في العالم، الذين يبلغ تعدادهم العالمي 150 ألف نسمة موزعين في نحو 20 دولة، على البقاء على قيد الحياة. وفي صيف عام 2018، التقى حوالي 130 من قادة الديانة في أمستردام لعقد مؤتمر “الأمل المندائي”. وبعد تحديد التحديات التي يواجهها المؤمنون، حذر منظمو المؤتمر من أن “انقراض الديانة وشيك”. وتجدر الإشارة إلى أنه لم يتبق سوى 250 عائلة صابئة مندائية في البلاد، لذا قد يتحقق هذا التنبؤ قريبًا، على الأقل في العراق.
تم نشر المقال مع امواج ميديا