Share This Article
العراق
في كتابه “عرب الهور” الذي كتبه المستكشف البريطاني ويلفريد ثيسيجر في عام ١٩٥٢، يتناول الحياة في الأهوار العراقية ويسرد العديد من الحوادث التي توضح الاستمرارية الجنسانية لسكان الأهوار، بالإضافة إلى رؤيته العابرين والعابرات جندرياً أثناء رحلته. في الفصل التاسع عشر من الكتاب يباغت عمارة مرافق ثيسيجر الملقب بـ”صاحب” بسؤال عن الشخص الذي قام بضيافتهم داخل المضيف. وصف ثيسيجر هذا الفتى، الذي يظهر بعمر الخامسة عشر، بأنه يرتدي عقالاً وعباءة، ويحمل خنجرًا في حزامه، وله وجه جميل يلفت الانتباه. عمارة يسأل ثيسيغر ما إذا كان قد أدرك أنه مسترجل، حيث أنه لم يلتقِ بهم من قبل. ويشير عمارة إلى أن المسترجلات هن نساء يولدن كذكور، لكنهن لا يتقبلن هذا الوضع، وبالتالي يعيشن كالرجال نظرًا لقلوبهن الرجالية. ويرد على تساؤل ثيسيجر بأن الرجال يتقبلونهن ويتناولون الطعام معهن في المضيف، وعندما يموتن، يُطلق الرصاص على روحهن تكريمًا، وهذا ما لا يحدث مع النساء. الناس المتحولين جنسيا
يتحدث المؤرخ ومرافقه عن وجود العابرين والعابرات وحياتهم الطبيعية كرجال أو كنساء، وعن الحياة الجنسية للعابرين جندريًا التي تمرر الكثير من الهويات الجنسية و الجندرية الغير معيارية التي كان العابرين فيها يحضون باهمية وحرية اكبر تباعاً للمعيارية الغيرية والهرمية الجنسانية التي تضع الرجل في مكانه متفوقة اجتماعياً و التي تسمح ايضاً لهم بالزواج من النساء فليس المطرب الأهواري العابر مسعود عمارتلي هو الوحيد من تزوج من نساء.. الناس المتحولين جنسيا
ثيسيجر يتابع مراقبته للعديد من الأشخاص خلال رحلته في الأهوار الممتدة حتى عام ١٩٥٨ وكان يُعجب بمستوى احترامهم، وفي إحدى المرات، جاء رجل مع ابنه البالغ من العمر اثني عشر عامًا الذي كان يعاني من المغص. قبل أن يفحص الطفل، قال الأب لـ ثيسيجر: “إنه مسترجله”. واستمر كل من ثيسيجر وعماره في الحديث عن “مسترجلات” آخرين، وتناولوا قوتهم الجسدية وصفاة الفحولة المرتبطة بالفاعل الجنسي في تراتبية الجنسانية العربية. الناس المتحولين جنسيا
وكانت الإشارة بضمير المذكر حاضرة دائمًا تجاه العابرين جنسيًا في الأهوار، مما يوضح تجاوز قدرية الجنس المعطاة بالنسبة للبنية الثقافية لماهية الرجل. يمثل الجنس، الجوانب الثابتة والمميزة تشريحيًا والوقائعية للجسد، بينما الجندر هو المعنى الثقافي والشكل الذي يكتسبه الجسم، و الأنماط المتغيرة الناتجة عن تكييفه الثقافي. الناس المتحولين جنسيا
وبالنظر إلى هذا التحليل، أصبح من الصعب تحديد وظيفة الرجال العابرين بناءً على حتميتهم البيولوجية، كما أوض ثيسيجر من خلال حادثة اكتشفوا بها أن العروس كان عابراً وافق على الزواج من رجل وارتداء ملابس النساء شرط أن لا يفعل ما يفعل مع النساء. كما أشار عماره أيضًا إلى زواج الرجال العابرين من النساء وممارستهم لما يمارسه الرجال مع النساء، مما يشير إلى الممارسة الجنسية. الناس المتحولين جنسيا
يبدو أن سكان الأهوار، بقبولهم للرجال العابرين، أدركوا أن الجسد الأنثوي ليس إلا محلاً لجندر “المرأة، وعليه، ليس هناك سبب استبعاد احتمالات أن يصبح هذا الجسد محلاً لبنى جندرية أخرى.
العابرات جندرياً ، هل المرأة تصبح واحدة ؟
يكمل ثيسيجر سرد رحلته إلى مضيف البو محمد وحين جلوسهِ : دخلت امرأة متينة البنية ، تلبس جوخ أسود شائع ، فطلبت علاجاً، لها وجه ذو مسحة ذكورية ، رفعت ثوبها كاشفة عن عضوي ذكري بحجم طبيعي ” هل لك أن تقطع هذا وتجعلني إمرأة حقيقة ؟.” اعترف ثيسيجر أنه ليس بمقدوره اجراء مثل هذه العملية وحين غادرت سأل عمارة بتعاطف : ” هل يستطيعون إجراء مثل تلك العملية في البصرة ؟ أنه امرأة حقيقية لولا ذلك ” . ثم يضيف ثيسيجر : رأيته يغسل الصحون على ضفة النهر مع امرأة. يبدو انه مقبول تماماً، كان هؤلاء الناس أكثر عطفاً علية مما نفعل نحن في مجتمعنا ، وكانوا قساة جداً في بعض النواحي. الناس المتحولين جنسيا
إشارة ثيسيجر إلى المجتمع البريطاني في الخمسينيات وكيفية تعامله مع النساء العابرات بقساوة تدل على أن المجتمع الأهواري/العراقي قد تخطى بطريقة ما الثنائية التقليدية للجنس، وتجاوز فكرة وجود جندر مسبقاً في سياقات مختلفة. الجندر هو تأويل ثقافي مستمر للجسد، ويجعل الفرد متموضعًا بشكل ديناميكي داخل حقل من الإمكانيات الثقافية، بمعنى أن يكون الجندر جزءًا منهم، سواء كان رجلاً أو امرأةً أو غير ذلك، وهو عملية تأويل للجسد ومنحه شكله الثقافي.
تعتبر الجنسانية تداخلًا بين العوامل البيولوجية، والنفسية، والاجتماعية والاقتصادية، والتاريخية، والثقافية، والقانونية، والدينية. وبالتالي، فإن الجنسانية تُعتبر بنية اجتماعية تاريخية وثقافية، حيث تمثل قراءة للعوامل البيولوجية دون تحديد نهائي. فالجنسانية تتميز بأبعاد تتجاوز العوامل البيولوجية، وتتداخل ثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا ودينيًا. الناس المتحولين جنسيا
من المهم الاعتراف بأن الجنسانية هي ظاهرة اجتماعية بحتة، وهي تمتد من السلوكيات والهويات والعلاقات إلى المؤسسات. إنها هوية تتجاوز العوامل البيولوجية، حيث تشمل هوية النوع/الجندر والتوجه الجنسي، والذي يؤثر في اختيار الشركاء الذين قد يكونون مثليين/ات أو غيريين/ات أو لا جنسيين/ات. الناس المتحولين جنسيا
على الرغم من أن كلتا النسختين الإنجليزية من الكتاب للتأكد من الضمائر التي تم استخدامها، اتضح أن عمارة مرافق ثيسيجر كان يشير إلى تلك المرأة على أنها امرأة، ولكن كان يصفها باستخدام ضمير المذكر “He”. فقد أشار لها قائلاً “He’s a real woman.” ولولا إشارة عمارة لها وإظهارها عضوها طالبةً للمساعدة، لما اكتشف ثيسيجر، الذي وصفها بالمرأة أولاً، حقيقة جنسها البيولوجي. الناس المتحولين جنسيا
يدخل هذا التعريف هنا في جدلية القبول والاعتراف التي تكاد لا تنتهي، ليس فقط داخل مجتمع مغلق على نفسه مثل الأهوار. فلم يكن هناك أي اهتمام للمعطى البيولوجي، مما جعل عمارة ومضيف البو محمد آنذاك يقبلونها وغيرها كامرأة جندرياً. وفي تدقيق الحواشي التي أضافها مترجم الكتاب، وهو القاص سلمان كيوش، فقد وصل كيوش بعد لقاء عمارة مرافق ثيسيجر وقتها إلى معلومات عن والدتها ووالدها، وعلى كونها واحدة من خدم شيوخ البو محمد. يقول كيوش أنه شاهدها خلال السبعينات بعد انتقالها إلى مدينة الثورة “مدينة الصدر حالياً”، وهي تتوسط النساء الملتحفات بالسواد وتردد الأشعار سواء كان المتوفى رجلًا أم امرأة. ثم استمر في طرح سلوكها الغير معياري على أنه سلوك غير منضبط، وأنه حس فكاهي كانت تحمله. وحلل كيوش بحنكته الفائقة أن طلبها من المؤلف مجرد دعابة منفلتة.
تعليق المترجم آنذاك على النسخة الصادرة سنة ٢٠٠٢ كان جزءًا من الأنظمة التربوية المعمول بها في البناء العربي للهويات. تم اعتبار النسق الجنساني نسقًا ثنائيًا ترتيبيًا يدور حول قطبين الأول رفيع فاعل والآخر دنيء مفعول به. هذه الأنظمة لا تزال مستمرة، حيث لم تكن “ابنة دريبيّة” الوحيدة التي رآها المترجم بمفهوم العزاء وتوسط النساء داخل المدينة. ذكر المترجم أيضًا رجلاً عابرًا أصبح مختارًا لقطاع ٥٦ في مدينة الثورة، وأشار إلى شجاعته في إحدى معارك الأهوار. الناس المتحولين جنسيا
تفترض القضايا الأخلاقية المبتذلة صورة محددة للنساء، وفق الهرمية الجنسانية التي تحدد الأدوار الجنسية. تُفضل وتُقدر السمات المذكورة ثقافيًا مثل الاستقلال والحكم الذاتي والفكر والإرادة والسيادة والتفوق، وتحتقر السمات المؤنثة اجتماعيًا كالعاطفة والجسد وغياب التسلسل الهرمي. كما تفضل المنطق الأخلاقي “الذكوري”. الناس المتحولين جنسيا
السمات التي رصدها المترجم وكررها على العابرين جندريًا كانت مرتبطة بالقوة والشجاعة والاستقلال، وهي سمات ذكورية ثقافيًا. على النقيض، حصرت السمات التي وردت عن العابرات بـ العمل الرعائي والواجبات المنزلية. هذه الرؤية يمكن تفسيرها من خلال القانون الأخير الذي شرعته الدولة واستهدف العابرات بشكل موسع، حيث إن مشكلة المجتمع ليست مع العابرات بسبب كونهن عابرات، ولكنها مع كونهن نساء وكيفية نظر المجتمع لهن كنساء لا تنطبق عليهن الأدوار الجنسانية المحددة سلفًا بسبب المعطى البيولوجي. الناس المتحولين جنسيا
أن تصبح جندًرا هي عملية تأويل عفوية ولكن واعية للواقع الثقافي المحمل بالتصديقات و المحرمات و التوجيهات. إن اختيارك تقّمص نوع معين من الجسد، أن تعيش أو ترتدي جسدك بطريقة معينة، يعني عالًما من الأنماط الجسدية المعترف بها. أن تختار جندًرا يعني تأويل المعايير الجندرية السائدة بطريقة تعيد تنظيمها بشكل جديد. عوًضا عن كونه فعل خلق جذري، فإن الجندر مشروع ضمني لتجديد المرء تاريخه الثقافي وفًقا لشروطه الخاصة. و هذه ليست مهمة إلزامية من واجبنا أن نسعى لتحقيقها بل هي مهمة لطالما كنا في سعي متصل لها على الدوام. الناس المتحولين جنسيا
المستعمر الأبيض وبحثه عن الأخلاق
ينتقل ثيسيجر بشكل مثير للريبة مباشرة للتفكير في الأسباب الأخلاقية التي قد تدفع “السادة” المتدينين إلى التزامهم الديني و يقول: “في مرة أخرى، وصل شخص مسن مع ابنه، الذي يبلغ من العمر تسع سنوات، وكان قد جرح يده بجرح عميق أثناء قطعه للحشيش. ترنح الطفل أمامي وأغمى عليه بسبب فقدان الدم. عندما سألت والده لماذا لم يسعف الطفل، اعترض بأن ذلك قد يتسبب في وصول الدم إلى ملابسه، مما يجعلها نجسة. ولحسن الحظ، تذكرت في الوقت المناسب أنه “سيد”، فلم يكن يكفيني أن أشتمه“. الناس المتحولين جنسيا
ثيسيجر يطرح هذه الحادثة مباشرة بعد الحديث عن العابرين والعابرات، ولا يُعتبر هذا مجرد صدفة روائية بناءً على شك النص وطريقة سرده للأحداث. بل تمثل محاولة لشرح التناقض في قبول “السادة” والشيوخ لوجود جوانب بيولوجية للأفراد يعتبرون أنفسهم رجالًا ويعيشون حياة رجولية كاملة، بينما يرفضون حمل أطفالهم الذين يتعرضون لخطر يهدد حياتهم، وهذا ليس غريبًا على المؤلف، ففي ذلك الوقت، عام ١٩٥٢، كان البريطانيون يضطهدون عالم الرياضيات آلان تورينغ، المساهم في فوز بريطانيا خلال الحرب العالمية الثانية بتفكيك شفرة إنجما الألمانية، بسبب مثليته الجنسية.
تُبرز هنا الأشكال الأكثر عمقًا للتحيز الجنساني والمركزية القضيبية، والأشكال المؤسسية، والاجتماعية، والحضارية والفلسفية للتحيز الجنساني. كان ثيسيجر يبحث من خلالها عن القيم الأخلاقية والمعتقدات التي تظهر في هذا المجتمع المصغر، من خلال ترك طفل صغير يواجه الموت لأسباب ليست ظاهرية بل عقائدية، وترك سلوك جنساني غير معياري يتم ممارسته بشكل طبيعي. وهذا ما دفعه ليمارس نوعًا من الخطاب الأخلاقي مستلهمًا من الممارسات الأخلاقية للمجتمعات البيضاء. الناس المتحولين جنسيا
من نهر دجلة إلى المأساة: الإبحار في أنهار العراق المتلاشية