Share This Article
في الوقت الذي نشهد به التهديد البيئي الذي تتعرض له الأهوار العراقية في ظل ازمة المناخ، والذكرى الثلاثون للإبادة الجماعية والتجفيف، يجدر بنا ان نلقي الضوء من خلال نظرة تحليلية على السياسات التي شكلت علاقة الدولة الحديثة مع عرب الاهوار منذ مطلع القرن العشرين في مراحل عدة، وعرب الاهوار هم مجموعة سكانية في دلتا بلاد الرافدين تتصف بثقافة فريدة ومختلف على اصولها، مما جعلها تتعرض لاضطهاد تأريخي برزت ملامحه بعد الحرب العالمية الاولى. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة عرب الأهوار وصراع الدولة الجديدة
الأصول العرقية
ظلت الأصول العرقية غير معروفة بشكل محدد، فعلى مدى القرون لم تتطور هوية عرقية خاصة لدى عرب الاهوار، تم اعتبارهم كعرق أدنى وتكهنت الأوساط الأكاديمية بعدة فرضيات تؤكد أصولهم، بحسب البحوث الجينية تم اعتبارهم السكان الذين لديهم أقوى صلة بالسومريين القدماء، ومع ذلك، تعتبر التقاليد الشعبية عرب الأهوار مجموعة أجنبية من أصل غير معروف وصلت إلى الأهوار عندما تم إدخال تربية جاموس الماء إلى المنطقة، وجد الإثنوغرافيون الاستعماريون البريطانيون صعوبة في تصنيف بعض العادات الاجتماعية وتكهنوا بأنها ربما نشأت في الهند، يبرر هذا الأعتقاد السائد تقليديا في المجتمع بتجارة الرقيق من الهند، بينما ترددت شائعات بين القبائل المجاورة عن أصولهم الفارسية، وتعد الأصول العرقية احد اسباب إبادة عرب الأهوار في التسعينات، كما اشارت صحف حزب البعث ابان الابادة، لتاريخ تجارة الرقيق من الهند في عهد الامبراطورية العباسية. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
حيث تفتقر تقاليد شعب الأهوار الشفوية الى التدوين المكتوب، كما لم يحظوا بسجل مكتوب لقبائلهم حتى القرن التاسع، وقد فقد السومريون هويتهم العرقية المتميزة بحلول عام ١٨٠٠ قبل الميلاد، مع ذلك لاحظ علماء آخرون ان الكثير من ثقافة عرب الاهوار مشتركة مع العرب البدو الذين جاءوا الى المنطقة بعد سقوط الخلافة العباسية، وبالتالي فأنهم ينحدرون من هذا المصدر ايضًا، تم وصفهم على انهم عرق مختلط بواسطة عدد من الانثروبولوجيين أي مزيج عرقي بين العرب البدو وسكان بلاد الرافدين القدماء وأعراق اخرى، کتب الإثنوغرافي النرويجي ثور هيردال: “في عروق عرب الأهوار هناك دماء سومرية أكثر من تلك الموجودة في عروق أي قبيلة عربية أخرى، وحدهم عرب الأهوار هم أحفاد تلك الحضارة القديمة”. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
على مر القرون تم تجاهل تجارة العبيد الهنود بعد الحكم الأسلامي للهند، واستمرت لقرون فقد كان العراق احد الوجهات الأساسية لنقل الآلاف من شعب “jat” او “zutt” في السند ثم سلالة “sammas” الى العراق بواسطة عدد من الحكام العرب أشدهم حملة محمد القاسم، تتحدث المصادر عن أن المستعبدين السابقين الهنود قد امتزجوا مع السكان المحليين في الأهوار، ولكن البحوث الجينية تؤكد على ان الجينات الجنوب-آسيوية ترتفع بشكل طفيف منعدم التأثير على مجمل التركيبة الجينية ولاتؤدي اثراً كبيرًا في الثقافة الأهوارية، وبحسب التعريف الحديث للعرق، فهو بنية اجتماعية يتم تعيينها بناء على القواعد التي يضعها المجتمع مرتبطة بالثقافة والمصالح المشتركة، على الرغم من أن العرق يعتمد جزئيا على أوجه التشابه الجسدية داخل المجموعات، إلا أنه ليس له معنى فيزيائي أو بيولوجي متأصل، لذا فإن الثقافة هي مايحدد العرق بطبيعة الحال. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
يعد المستشرق بيترو ديلا فيلا أول من أدخل اسم “معدان” كأشارة لشعب مميز يسكن دلتا بلاد الرافدين إلى العالم الغربي في القرن السابع عشر، تناولت كل الكتب التي صدرت فيما بعد هذه التسمية على كونها مرادفة لكلمة عرب الأهوار او مايحل محلها، وهي كلمة عربية تعني “همجي” تعد كناية ايضًا للخشونة ويتم استعمالها على نطاق واسع في العراق كصفة للجهل والوحشية والقبح بواسطة عدد كبير من الأمثلة الشعبية والأشعار الفصيحة القديمة، يقال أنه ايضًا أسمٌ لطائرٍ قبيح الشكل جميل الصوت، تظهر هذه الكلمة الصورة الثقافية التي يطبعها الموروث القومي، فقد استعملت هذه الكلمة بأستخفاف لجعل هذه الثقافة ملتصقة بالشعور بالعار والوحشية واستعمالها يعد مسيئًا اينما حل بسبب تأريخها، يعتقدها سيبويه كناية عن الرجل متدني القدر، ويعتقد الزمخشري انها تعني التقشف والخشونة، قد يكون وجودها الأدبي الأقدم هو على لسان النعمان بن المنذر في القرن السادس الميلادي قبل ظهور الأسلام كما ورد في كتاب جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، فعندما قابل النعمان بن المنذر رجلاً يدعى ضمرة قال له: “تسمع بالمعيدي خيرا من أن تراه” وذلك لغرابة شكلهِ، فرد عليهِ ضمرة: إنما المرء بأصغريه، قلبه ولسانه، إذا نطق نطق ببيان وإذا قاتل قاتل بجنان، والرجال لا تُكال بالقفزان”، وفي حديث عمر بن الخطاب: اخْشَوْشِنُوا وتَمَعْدَدُوا، ومنه قيل للغلام إِذا شب وغلظ قد تمعدد. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
في أحدى الحالات التي ذكرت ازدواجية الكلمة، فوجئ الدواشي احد الطلاب العراقيين في امريكا بكيفية إضفاء الطابع الرومانسي على الغرب على نمط حياة عرب الأهوار كنوع من “البندقية البدائية” يقول: “في العراق كانت كلمة “معدان” افتراءا ثقافيا، مما يعني الجهل، في كلية الطب عندما كنت في العراق وصفت الأهوار بأنها منطقة امراض مليئة بالملاريا.”، في استنتاجه وملاحظاته يقول عالم الانثروبولوجيا هينري فيلد حول عرب الاهوار:” التمييز بين معدان وغير معدان غير محدد ويبدو أنه تمييز كنية بدلا من العرق“، في نفس الوقت الذي توصل فيه فيلد إلى هذا الاستنتاج، كان فرانز بواس قد أحدث ثورة بالفعل في الأنثروبولوجيا الأمريكية بحجة أن العرق لا تحدده البيولوجيا بل البيئة والثقافة، بحسب بعض القصص الأقل شهرة ومنها قصة اسلامية، تعزي الأسم لمعد بن عدنان الذي امتاز قومه بغلظة العيش، والأخرى قصة شعبية لاتعدو عن كونها خرافة تفيد بأن الشكل الظاهري والسلوكي لسكان الأهوار قد تأثر بقدوم الاستعمار البريطاني بالجنود الهنود ليندمجوا فيما بعد مع السكان المحليين، تعود القصة بأوجه مختلفة لتضع قطرة الدم الهندية في الجسد لتبرر اضطهاده. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
الحرب على المياه وتجارة العبيد
بسبب طبيعتها الجغرافية المتمثلة بغابات القصب أصبحت الاهوار مهربًا على مر القرون للهاربين من الرق في عهد الخلافة العباسية، برزت كأرض لا يمكن اختراقها وارتبطت تلك الخاصية الجغرافية بوصف سكان الأهوار بالخيانة والتمرد والمحاربة الأقليمية لتجربة السواد، فقد شارك عرب الاهوار مع الافارقة المستعبدين في ثورة الزنج احدى اوائل حركات التحرر من العبودية والتي تمركزت في الأهوار ضد الخلافة العباسية عام ٨٦٩م وحكمت اجزاء من جنوب العراق لعقود بواسطة العبيد الذين تم جلبهم للعمل في اقطاعيات جنوب العراق، صنفت هذه القبائل تاريخيًا على أنها عدائية كوصف الولاة العثمانيين لثورة ابن عليان الذي استطاع ان يبني قوة عسكرية وسط متاهات القصب. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
لجأت المجتمعات الهاربة عبر التاريخ الى المناطق الرطبة مثل شعب توفينو الذين هربوا إلى بحيرة نوكوي للهرب من تجارة الرقيق، أطلق المعارضون العراقيين على الاهوار اسم “غابة شيروود الخاصة بنا” فبعد ان بدأ المتمردون الشيعة في استخدام الأهوار كقاعدة للاختباء من القوات الحكومية، كان صدام حسين مستاء من عرب الاهوار بشكل خاص لأنهم عرضوا اللجوء والمساعدة وبسبب مشاركتهم في انتفاضة عام ١٩٩١، بالأضافة الى يأس الحرب، دفعت تلك العوامل مجتمعة الى تأجيج خطاب التفوق العرقي والطائفي والذي في النهاية انتهى بالأبادة. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
لم يبدأ تدمير الأهوار في عام ١٩٩١ أو خلال الحرب الايرانية-العراقية، ولكن قبل قرن من الزمان، فقد قسمت الأهوار لقسمين بواسطة اتفاقية سايكس بيكو، القسم الأكبر البالغ ٧٠٪ من المساحة الكلية في العراق وما يقارب ٣٠٪ في ايران. أصبح ترسيم الحدود الحديثة اول شكل لرسم العلاقة بينهم وبين الدولة العراقية التي تخط رحالها للأستقلال، لآلاف السنين برزت الأهوار كمنطقة عديمة الجنسية مماثلة لما يصفه جيمس سكوت بالمرتفعات في جنوب شرق آسيا، كانت المنطقة غير قابلة للإصلاح الهيدرولوجيا ولا يمكن اختراقها جسديا، ملاذا طبيعيا للعبيد والمنشقين والهاربين، حيث يعد انهاء ايواء المتمردين المعارضين احد ابرز اسباب تجفيف الاهوار. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
التهجير والتنمية القومية
عاش عرب الاهوار في عزلة نسبية حتى الحرب العالمية الأولى، بحلول ذلك الوقت أدت زيادة التجارة وهجرة اليد العاملة إلى زيادة الاتصال بالمجتمع المتبقي، ولكن في خلال نشأة الدولة العراقية تم اعتبارهم الطرف الآخر للأمة التي برزت في خطاب المملكة، تعتبر الأهوار للآن الحديقة الخلفية للدولة، قد تستضيف السواح لتلميع صورة الحكومة والدخل الأقتصادي ولكن تُقطع حصصها المائية وترمى مياه الصرف السامة اليها في كل وقت، تسربت العنصرية المنهجية في دولة مابعد الأستعمار دون الأشارة لحلولها وما ادى لوجودها وتفاقمت بعد تشكيل المدن والأحياء الفقيرة المزدحمة التي فر لها عرب الاهوار، هاجر الرجال المتعلمون إلى البصرة وبغداد حيث فشلوا في العثور على عمل وعاشوا في أحياء فقيرة واضطهدوا من قبل الشرطة كما وصف ويلفريد ثيسجر في كتابه “The Marsh Arabs”، اما تجمعات القبائل فقد سكنت مدينة الثورة (الصدر) في بغداد والتي بقيت لعقود تسمى باسم مدينة الصرائف وهي عبارة عن بيوت معدمة من البنى التحتية وفي معزل عن المدينة بدأ سكان الأهوار بالهجرة لها بعد انشاء سد الكوت عام ١٩٣٩ وتعد هذه بداية تصاعد موجات النزوح الأهواري، بنيت فيما بعد مدينة الثورة بخرائط هندسية مختلفة ومخصصة لهجرة القرويين والتي وصفها بعض المعماريون على انها كارثة هندسية مخصصة لأحكام القبضة الحكومية على المدينة. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
قبل ترسيم الحدود العراقية من قبل بريطانيا الاستعمارية تم تصنيف عرب الأهوار كمجتمع مهمش متميز، قد ادخلته من خلال عملية استعمار العراق وتحديثه منذ مخططات التحديث التي تقودها بريطانيا في العراق في الخمسينيات وإدخال أساليب تشدد قبضة النظام الإقطاعي لتنهي اقتصاد الكفاف المحلي حيث أدخلت نظام الإدارة القبلية ذاته المستعمل في بلوچستان جنوب آسيا، كان عرب الأهوار وموطنهم ونظامه البيئي هدفا للاستنزاف لإفساح المجال لتطوير البنية التحتية مثل سد الناصرية وحقل الرميلة النفطي، أنتجت شركة نفط العراق التي تسيطر عليها بريطانيا أفلاما وصورا تصور جنوب العراق، حيث توجد الأهوار، كتذكير حي بالماضي. كان هذا التصوير للأهوار وسكانها مجاورا لصور مشاريع البنية التحتية المائية ومصافي النفط، كانت كلمة “معدان” مرادفة لما قبل الحداثة، وبالتالي تم تشكيلها في خيال التنمية لدولة عراقية ناشئة وتحالفها مع الاستشاريين الغربيين، منطقة الأهوار هي أيضا موقع لبعض أغنى رواسب النفط في البلاد، أكبرها حقول مجنون باحتياطيات تتراوح من ١٠ إلى ٣٠ مليار برميل وغرب القرنة باحتياطيات تبلغ ١٥ مليار برميل، استغلت التنمية الاقتصادية النفط لتجفيف مناطق شاسعة من الأهوار والتي لن يتم غمرها في وقت لاحق على أي حال بسبب وجود معامل النفط الضخمة. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
بواسطة العبور لمجتمعات القبائل العربية الأخرى في المدن الكبيرة أستطاع عرب الأهوار ان يتمكنوا من الأندماج في العقود الأحدث على عكس التقسيم الذي كان يمنعهم من ذلك عبر السكن في احياء منفصلة ومجتمعات هامشية اخرى، الأندماج بدوره اصبح يقضي على آخر بقايا الثقافة المنسية فلم تكن بنية التكوين الثقافي لعرب الأهوار تمكنه من الاستمرار خارج أرضهم وتمنعهم من الذوبان في مجتمع المدينة العربية، الأنكار الثقافي والاندماج في محيطهم جعل ثقافة الأهوار تخسر الجزء الأكبر من هوية شعبها وتقاليدها وتنوعها اللغوي الى جانب التجريد القسري من الهوية خلال حقب مختلفة، ومن خلال خطط التنمية في التعليم والتحديث اعتبرت ثقافتنا بمختلف نواحيها مقترنة بالماضي، تمت هيكلة نظام التعليم والإعمار بشكل يبدد تداول ثقافتنا الشفوية والمادية ويصنع حالة انكار للهوية الثقافية، واستمرت خطط التنمية القومية والتحديث بصناعة أشد خطط التدمير محدثةً ماوصف بأنه احد اسوأ الكوارث البيئية والبشرية في العصر الحديث، وصفتها ناسا بأنها “واحدة من أكبر الكوارث البيئية في العالم” وهي تدمير الأهوار والأبادة بحق شعبها. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
الأبادة الجماعية والبيئية وخطة التدمير
تعزو معظم الروايات بما في ذلك دستور العراق هذه الإبادة الجماعية المزدوجة إلى حملة صدام حسين للهيمنة الطائفية والانتقام من الشيعة خاصة بعد سحق انتفاضة مارس ١٩٩١، ولكن في ورقة بحثية في المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط قدم تقييما مختلفا لما حدث في الأهوار حيث أشارت بأن التدمير مدفوع بيأس الحرب اكثر من العداء الطائفي ذات السبب الذي ادخل صدام حسين في حروب متعددة، اللعب على وتر الحرب والحماية، كانت الخطة أقدم من حرب الخليج فقد كان مسؤولو الانتداب البريطاني اول من حاول تجفيف الأهوار، تعود الخطط الزراعية الحكومية للأهوار إلى أوائل الخمسينيات في العهد الملكي تتضمن مشروع كبير بدأ في عام ١٩٥٣ والمعروف باسم مشروع النهر الثالث واعيدت للواجهة عام ١٩٦٣ ثم تم احيائها في عام ١٩٩١ ولكن صدام حسين بدوره قد طورها بشكل دقيق، جادل علماء آخرون على ان خطط التجفيف المطورة بدأت منذ وقت أبكر أي منذ الحرب الايرانية-العراقية وبالتحديد عام ١٩٨٥، ولكن اوامر خطة التدمير والأبادة قد نفذت منذ ال٢١ من شهر نيسان عام ١٩٩٢، أشرف علي حسن المجيد، ابن عم صدام حسين ورئيس حملة الأنفال للإبادة الجماعية في العراق، على إنشاء طوق محكم حول الأهوار، تم تحديد البيئة نفسها كعدو يجب التغلب عليه في سياق مكافحة التمرد المشتعل فيها، فيما بعد يظهر الدستور العراقي لعام ٢٠٠٥ كيف تم محو التجربة الأهوارية في الأبادة والنزوح دون ذكرها عبر التهميش والذوبان في الهوية السياسية للجماعة الجديدة وعدم الأعتراف القانوني بوجود المكون أو الابادة الجماعية او الحقوق الثقافية. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
و بعد ما يقرب من تسعة أشهر من التحولات على مدار الساعة اعلنت الحكومة العراقية رسميا افتتاح نهر صدام (النهر الثالث) في ٧ ديسمبر ١٩٩٢ بحضور صدام حسين بنفسه محتفلًا به على أنه انتصار للبراعة التقنية العراقية، اعتبارا من أوائل عام ١٩٩٣ مضت الحكومة العراقية قدما في أعمال الصرف واسعة النطاق، والتي كان بناء النهر الثالث مجرد بداية لها لزيادة تجفيف الأهوار وحرمانها من مياه دجلة والفرات، تم الانتهاء من أربع قنوات تصريف رئيسية أخرى على الأقل في عامي ١٩٩٣ و١٩٩٤ هم نهر القادسية، ونهر أم المعارك، ونهر العز (الازدهار)، ونهر تاج المعارك، كما تم بناء العديد من السدود لمنع التدفق العكسي وتم رفع السدود أو بنائها بالإضافة إلى ذلك، تم تقسيم امتدادات هور الحَمّار والحويزة بشكل مكثف باستخدام السدود، بحلول بضعة سنوات اصبح اكبر نظام بيئي في غرب آسيا صحراء قاحلة. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
في ديسمبر ٢٠٠٢ نشرت هيومن رايتس ووتش ورقة، توضح بها بالتفصيل الجرائم الخطرة التي ارتكبت في العراق خلال الثمانينيات والتسعينيات وحثت على إنشاء محكمة دولية لتقديم مرتكبي الإبادة الجماعية والجرائم ضد الأنسانية، بعد صدور أوامر خطة التدمير قتل عشرات الآلاف في الأهوار من خلال الإعدام بالإجراءات الموجزة والقصف العشوائي وقصف المناطق السكنية في البلدات والقرى، كانت هناك أيضا ادعاءات مستمرة بأن القوات المسلحة كانت تستخدم النابالم والغاز في هذه الهجمات، تم تعذيب واخفاء واغتصاب وسجن عشرات الآلاف من الآخرين، وأُعدم الشباب في الشوارع والمنازل والمستشفيات وتمت إساءة معاملة أقارب المشتبه بهم من أجل إجبارهم على الكشف عن مكان وجود المطلوبين من قبل السلطات، سممت المياه وحرقت المنازل كأعمال عقابية وفرض حصار أقتصادي على سكان الأهوار يمنعهم من التجارة والحصص التموينية الحكومية، في خضم ذلك تم طرد مايقارب نصف مليون انسان خارج الأهوار موطنهم التأريخي الى ايران ومناطق اخرى عبر تجفيفها بالسدود والقنوات في حين أصبح ما لا يقل عن ١٠٠ الف نازح داخليا في العراق، نقل فيما بعد جزء من السكان قسريا من قراهم الأصلية إلى مستوطنات على الأراضي الجافة على مشارف الأهوار وعلى طول الطرق السريعة الرئيسية لتسهيل سيطرة الحكومة عليها، ورافق هذه التدابير إصدار تشريعات تمييزية ضدهم وتدمر أرشيف الأهوار والذي بدوره كان يعاني من المنع الحكومي، ثم فرضت رقابة صارمة على المواد المطبوعة والمنشورة.”الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
اكمال تنفيذ خطة التدمير والأسكان
لجنة حقوق الإنسان أظهرت التطورات اللاحقة وقالت ان “الحكومة العراقية نجحت في الواقع في تنفيذ خطة أكثر طموحا بكثير، وبلغت ذروتها في القضاء شبه الكامل على السكان الأصليين من خلال القوة الغاشمة والتدمير المنهجي لسبل عيشهم الاقتصادية وبيئتهم الطبيعية”، تبعت تلك الأحداث أوامر جديدة لمنع عودة السكان واكمال تنفيذ خطة التدمير، منها تدمير واسع النطاق ومتعمد للمنازل والممتلكات من خلال التجريف أو الحرق وقد تم ذلك بشكل منهجي بعد قصف القرى المستهدفة، وبالمثل، أضرمت النار في المحاصيل والنباتات الأخرى وقتلت الماشية عمدا وزرعت ألغام المياه أيضا في المياه الضحلة الباقية التي يستخدمها السكان المحليون لمنع التنقل والتجارة وعودة السكان وهي مسؤولة عن عشرات الوفيات والإصابات بين المدنيين، فضلا عن مقتل أعداد كبيرة من جاموس الماء والماشية التي يعتمد عليها الكثير من الاقتصاد المحلي، كما تم وضعهم على طول السدود لحمايتها من هجوم قوات المعارضة المسلحة.
ابلغ المقرر الخاص لهيومن رايتس ووتش عن استمرار استخدام نظام البطاقات التموينية والحرمان من العلاج كوسيلة لإنفاذ “الولاء” للسلطات أو كأداة للمعاقبة الجماعية لقبائل الأهوار التي تعتبر “معادية”، طلب العلاج الطبي في العيادات أو المستشفيات التي تديرها الدولة يعني المخاطرة بالاعتقال، حيثما أمكن تم تهريب الجرحى إلى إيران لتلقي العلاج لكن الرحلة كانت خطرة ولم ينج البعض منها، واجه المدنيون الذين مرضوا أو احتاجوا إلى علاج طبي للظروف العادية مشاكل مماثلة، خاصة بعد أن بدأت الحكومة في إزالة المخزونات الطبية من المستشفيات والعيادات من المدن الكبرى بالقرب من الأهوار (بما في ذلك البصرة والناصرية والعمارة) ونقلها شمالا، اما من ناحية تشديد الحصار الاقتصادي الذي فرضته الحكومة على المنطقة استلزم ذلك حظرا تاما على نقل المواد الغذائية والمنتجات النفطية المكررة والأدوية إلى الأهوار، أفيد بأن دوريات الجيش تقوم بتفتيش المسافرين إلى المنطقة وتقوم بالاستيلاء على أي طعام يعتبر أنه يتجاوز احتياجات الأسرة أو إتلافه، غالبا ما تم التعامل مع مهربي الأغذية الذين تم القبض عليهم بقسوة بما في ذلك الإعدام، وقال مقرر الأمم المتحدة الخاص مستشهدا بتقارير من لاجئي الأهوار الذين يصلون إلى إيران، إن السلطات حرمت العائلات التي رفضت الانتقال إلى الحكومة من إسكان الإمدادات الغذائية الشهرية الموزعة وفقا لنظام البطاقات التموينية الذي تم إدخاله بعد فرض عقوبات الأمم المتحدة، وقد أدى ذلك إلى تفاقم الوضع المزري بالفعل لأنه من الأساس بسبب عزلة الأهوار وعدم إمكانية الوصول إليها لم يتم تسجيل بعض الناس رسميا في السجلات الحكومية ولا يمتلكون بطاقات الهوية اللازمة للتسجيل لاستلام حصص الإعاشة. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
في أبريل ١٩٩٢ وافقت الجمعية الوطنية العراقية على برنامج إسكان جديد وفقا لرئيس البرلمان العراقي آنذاك سعدي مهدي صالح، كانت نية الحكومة نقل عدة آلاف من سكان الأهوار إلى منازل شيدت على طول الطريق السريع بين البصرة والقرنة، ونقل قسم آخر من قبائل الأهوار خارج المدن واستبدال قبائل عربية بدوية في مناطقهم لأحداث تغيير ديموغرافي، برر خطة الإسكان بأنها “لتزويدهم بالكهرباء والمياه النظيفة والمدارس والرعاية الطبية” و”جعلهم مواطنين صالحين” بحسب قوله، قال صالح لوسائل الإعلام إن الخطة التي وافق عليها البرلمان “لا تحدد ما إذا كانت العائلات المراد نقلها ستمنح خيار الانتقال أو البقاء، ما إذا قلنا إنها إلزامية أو اختيارية لا أهمية بالنسبة لهم”، لم يضيع التوازي بين الأكراد وعرب الاهوار على رئيس البرلمان، في إشارة إلى الأكراد قال صالح لوكالة رويترز للأنباء: “في ذلك الوقت قمنا بإجلاء هؤلاء الأشخاص ووضعناهم في مجمعات وزودناهم بوسائل الراحة، ولكن لأسباب سياسية كان هناك خلاف ضدنا في الغرب فيما يتعلق بشعب الأهوار، يجب أن يساعدنا الغرب في نقل منازلهم وبناء المدارس لهم وتحسين ظروفهم الصحية بدلا من الانتقاد، محت أمريكا الهنود الحمر من على وجه الأرض ولم يرف لأحد جفن“، رافق برنامج إعادة التوطين القسري في الأهوار حملة تطهير عرقي شملت هجمات عشوائية بالمدفعية وطائرات الهليكوبتر الحربية والطائرات الثابتة الجناحين على القرى كانت مصحوبة باعتقال وإعدام المدنيين بمن فيهم زعماء القبائل وتدمير الممتلكات والماشية، وهدم قرى كاملة وكان من بين المستهدفين عائلات بأكملها رفضت إخلاء منازلهم، سرعان ما أعقبت موجات الاعتقالات تقارير عن عمليات إعدام جماعية بإجراءات موجزة، من بين التقارير التي تلقتها هيومن رايتس ووتش في ذلك الوقت حادثة واحدة تنطوي على إعدام حوالي ٢٥٠٠ شخص في أغسطس ١٩٩٢، تم اعتقال الضحايا من بينهم نساء وأطفال في الچبايش مع المقاتلين الاسرى، وفقا لشهادة حصلت عليها هيومن رايتس ووتش بما في ذلك شهادة أحد الناجين تم نقلهم إلى معسكر للجيش في شمال العراق حيث أعدموا على مدى حوالي أسبوعين. “الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
“الخروج من جنة عدن” عرب الأهوار وصراع الدولة الحديثة
“وصلت إلى مناصب صنع القرار” .. كيف ساهمت الحرب بتمكين النساء في اليمن